الثلاثاء، 6 يناير 2015

من روائع الرثاء..

 

    الأدب فنون متنوعة وألوان متعددة في مناحي مختلفة، ومن فنونه البارزة التي لها حضور في الذهن وموضع في المجتمع فن الرثاء، وهو فن متداول في الأدب العربي: شعره ونثره في كل العهود وعلى امتداد الزمان، والرثاء الصادق نجده يتجسد في الكلمة المؤثرة والصورة الموحية والفكرة المعبّرة، وهو يرتبط بالموهبة الأصيلة والحسِ المرهف والوفاء الخالص، وله امتداده عبر مختلف العصور منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي ويُعدُّ الرثاء من أصدق ما عبّر عنه الشعراء وأبدعه الكتّاب. لأنه في الغالب يصدر عن وجدان مفعم بالمشاعر النبيلة، وقلب مترع بالمحبة الخالصة التي لا يمازجها رغبة أو رهبة، وقد برع العرب في هذا الفن وأبدعوا فيه وارتقوا بفنه، وذلك لالتصاقه بشغاف النفس ولأنه ينبع من أعماق الفؤاد، ولذا كان له تأثيره ومدى انعكاسه على العاطفة، فهو يمثل لوعة موجعة وحسرة لاذعة لفراق حبيب أو فقد عزيز.

* * *

ومعلوم أن الفراق له وقع فاجع بين المحبين وهو يعكس مشاعر الحزن، ويكرس ألم الفراق هذا إذا كان الغائب حياً تُنتظر عودته فيتجدد نحوه الشوق بحسب طول غيابه ومسافة ابتعاده، ويظل الأمل معلقاً عليه والرجاءُ مرتبطاً به في تعليل للنفس بالآمال المرتجاة لهذه العودة القريبة، والصلة به موصولة على بُعده على أساس عودة منتظرة ورجعة مؤملة كما هو واقعنا في هذه الدنيا.. فكيف إذا كان الفراق أبدياً لا يُنتظر له إياب ولا يُؤمل بعده عودة؟ وذلك كما هو واقع الحال في رحيل مَنء ينتهي أجله ولا رجعة له من رحلته الأبدية إلى دنيا الناس.. لاشك أن الفاجعة حينئذٍ ستكون فادحة والحزن أعم وأشمل. لانقطاع الأمل وتلاشي الرجاء في أوبة الراحل وعودة الغائب، وهنا يتعمق الحزن فيهزّ كيان المحزون ولا يخفف لواعج الفراق ويهدّئ من توترات المحزون سوى الدموع التي يسفحها، والرثاء الذي يخفّفها إذا كان مستطيعاً لتوظيف موهبته في هذا الجانب من هذا الفن الرثائي، وعندما سئل أحد شعراء العرب: لماذا كان شعر المراثي أشرف الأشعار؟ أجاب لأننا نقول هذا الشعر وقلوبنا محترقة، وفي هذه الاجابة ما يؤكد بواعث الحزن على فراق الأحبة وأن الرثاء بمثابة البلسم الذي يخفف من شحنة الآلام للحزين، ولذلك نرى أن الذي يقوم بالرثاء شعراً أو نثراً يحس بشبه راحة نفسية عندما يعبّر عن مواجده ومواجعه بما يريح ذاته ويخفّف أحزانه ويأسو جراح قلبه، وبهذا الاحساس كان الرثاء في واقعه تعبيراً عن صدق الشعور كما هو في أغلب حالاته وأوسع مجالاته: ذلك أنه لم يعد للمجاملة موضع بعد حتمية الفراق، وذلك لغياب الأمل بانتقال المرثي إلى العالم الآخر وبُعد المسافة بين الحي والميت وانقطاع الصلة بينهما بشكل حتمي.

* * *

ومما لا ريب فيه أن لبعض شعر الرثاء أثراً كبيراً إذا كان صادراً من أعماق الشاعر صادقاً في صدوره عن وجدانه. لم يكن يطلب من ورائه جزاءً مادياً أو منصباً دنيوياً، وإنما هو مجرد تعبير واقعي عن حقائق معروفة عن المرثي ووفاء مغروس في نفسية الراثي، ومن ذلك القصيدة الفريدة لأبي بكر محمد بن أبي محمد القاسم المعروف بالأنباري: التي رثى بها صديقه محمد بن بقية وزير عز الدولة، فقد انفعل بالحدث حينما رآه مصلوباً من قبل عضد الدولة فكانت هذه القصيدة الرائعة والتي قد يكون صاحبها ممن اشتهر بالقصيدة الواحدة، ففيها تصوير لواقعة الصلب وتحويل المشهد المؤلم إلى علوٍ للمصلوب على عكس ما قُصد من اهانته بعد موته بصلبه، ونكتفي من هذه القصيدة المؤثرة ببعض أبيات منها لتحديد الدلالة على وفاء الشاعر ومكانة المصلوب:

علوٌ في الحياة وفي الممات

لحق تلك احدى المعجزات

كأن الناس حولك حين قاموا

وفود نَداك أيام الصِلات

كأنك قائم فيهم خطيبا

وكلهم قيام للصلاة

ولما ضاق بطن الأرض عن أن

يضم عُلاك من بعد الوفاة

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا

عن الأكفان ثوب السافيات

لعظمك في النفس بقيت تُرعى

بحفاظ وحراس ثقات

وتُوقد حولك النيران ليلاً

كذلك كنت أيام الحياة

في هذه القصيدة تجسيد رائع لمآثر المصلوب فقد حوّل الشاعر مَعَرَّة الصلب إلى مزية للمصلوب، وحين يصدر الشعر عن أصالة في الوفاء وصدق في المشاعر يكون له تأثيره البالغ وأثره الدائم الذي يبقى مع تكرار الأعوام ودورات العهود.. لقد اتخذ الشاعر من بشاعة الحدث مادة شعرية صنع منها فخاراً لبطله، فكان تصويره للصلب في ارتفاع المصلوب فوق صالبه: حسيّاً ومعنوياً مما أضفى عليه علواً في الممات كما كان كذلك دأبه في الحياة، وعلى هذا النمط العالي من المشاعر المرهفة وحشد الأمجاد الذاتيّة للمرثي: ما يجعل لبعض شعر الرثاء قيمة لصدوره عن وجدان مفعم بنزعة إنسانية صادقة، وقد انتشرت هذه القصيدة في الآفاق وحفظها الناس واستعادوا أبياتها واستنكروا عمل الصالب وأشادوا بمفاخر المصلوب. حتى ليقال: إنّ عضد الدولة الذي صلب الوزير محمد بن بقية ندم على ما فعل وتمنَى أنء لو كانت القصيدة قيلت فيه لينال العطف والإكبار والتمجيد الذي ناله خصمه المصلوب، وهكذا يكون تأثير الشعر الصادق الصادر عن أحاسيس مرهفة وشاعرية مؤهّلة لحشد المشاعر وتأجيج العواطف كما هو واقع حال صاحب هذه القصيدة.

* * *

وقد كان الرثاء في العصر الجاهلي يعتمد على التنويه بالمتوفَّى، وابراز الصفات والسجايا الطيبة التي يتحلَّى بها المرثي ويتحدث بها الراثي عنه، وهي تتجسد في الممارسات الفاضلة المستحبة التي كانت سائدة في المجتمع العربي منذ جاهليته كما هي متمثلة في مزايا كثيرة. كالشجاعة والسخاء وحماية المستجير وإكرام الضيف والوفاء وحفظ العهد والأمانة والصدق ورعاية الجوار، وما ينسحب على هذا المنوال من الأفعال والخصال الكريمة التي تدخل تحت مفهوم مكارم الأخلاق، وحين جاء الإسلام أتمها بمكارم أخرى - كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق - فأضاف إليها الاستقامة والصلاح والتقوى والعدل والورع، وما يجري على هذا النسق من فضائل الأعمال وكرائم السجايا، ولذا نرى حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية في شطر من عمره وعاش في الإسلام أكثر عمره: يرثي أبا بكر الصديق رضي الله عنه بهذه الخلال الحميدة التي تبناها الإسلام وأضاف إليها ودعا إلى ممارستها وعدّها من فضائل الأعمال وجميل المزايا، وفي هذا الصدد كتب استاذنا الدكتور شوقي ضيف عن رثاء حسان للخليفة الأول الصديق رضوان الله عليه: "أول خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم هو أبوبكر الصديق الذي حمل لواء الدعوة الإسلامية من بعده وتناول مصابيحها، فأضاء بها شرقيَّ الجزيرة وغربيها: بلاد فارس والشام بعد أن لَم شتات العرب المبعثرة في الجزيرة، ودفعه دفعاً إلى الخارج، فتراموا كالموج، لا يحول بينهم وبين ما يريدون حائل، وكأنما ناولهم بيده الكريمة الكرة الأرضية ليزرعوا في أي مكان شاءوا الدعوة الإسلامية، ويَجنءوا لله ولأنفسهم ثمارها، وفيه يقول حسان مؤبناً:

إذا تذكرَّتَ شجواً من أخي ثقةٍ

فاذكر أخاك أبابكر بما فعلا

خَيءرَ البريَّة أتقاها وأعدَلها

بعد النبيٌ وأوفاها بما فعلا

الثاني اثنين والمحمود مشهدُه

وأوَّل الناس طرَّا صدَّق الرُّسلا

وكان حِبَّ رسول الله قد علموا

من البريَّة لم يعدل به رجلا

وحسان يتحدث في تأبينه لأبي بكر عن فضائله المعروفة عند المسلمين، إذ يعرض لمنزلته من الرسول، وكيف كان صاحَبه في الغار وفي الهجرة من مكة إلى المدينة، ويذكر أنه كان أول المصدقين به وبرسالته، ولذلك دُعي الصديق. وكل ذلك ذائع مستفيض عن أبي بكر. أما تقواه وزهده وصالح سعيه في الدين وإذلاله للدنيا وإعزازه للآخرة، فكل ذلك مشهور بالوجه الصحيح والشهادة الثابتة، وأما رفقه بالمسلمين وعدله بينهم وما شئت من سيرة زكية نقية طاهرة، فالأمة الإسلامية مُجمعة عليه والدلالة اليقينية قاطعة به. نضرَّ الله وجهه. وليس هناك ريب في أن تأبين حسان جديد في اللغة العربية، فهو لم يتحدث حديث الجاهليين عن موتاهم، وإنما تحدث حديث المسلمين، تحدث بسيرة لم تكن تعرف الجاهلية، فيها البر والعدل والتقوى والإسلام، وفيها الخير ومحبة الرسول وإيثاره على كل الأصحاب والأنصار، وبهذه الخلال والمناقب الجديدة كانت فاجعة الإسلام والمسلمين فيه"

عبدالعزيز بن عبدالله السالم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق