الأربعاء، 14 يناير 2015

الأعمى ابن الأعمى.


هو علي بن إسماعيل، أبو الحسن، اللغوي الأندلسيّ المُرْسيّ (نسبة إلى مرسية مسقط رأسه، وهي مدينة في شرق الأندلس)، المعروف بابن سيده، إمام اللغة وآدابها، وأحد من يضرب بذكائه المثل. مع أنه قد غلبت كنيته (ابن سِيدَه) على اسم أبيه، وإن كانت المصادر وكتب التراجم لم تذكر سبب تكنيته تلك.
نشأ ابن سِيدَه في بيت علم ولغة، حيث كان أبوه من النحاة من أهل المعرفة والذكاء، وقد تعهد ابنه هذا بالرعاية والتعليم، وصقله صغيرًا وشبّعه بحب اللغة وعلومها، وإن العجب ليس في أن أباه هذا... كان ضريرًا، بل العجب كل العجب من أن الابن أيضًا (ابن سيده) كان ضريرًا مثل أبيه، فهو أعمى ابن أعمى، ولكنه ورغم عمى بصره فقد كان نيّر القلب كأبيه، قد رزقه الله عوضًا عن فقدان بصره حافظة قوية وذهنًا متوقدًا، وذكاءً حادًّا.
وقد شهد بذلك أبو عمر الطلمنكي يوم أن قال: دخلت مرسية فسألني أهلها أن يسمعوا مني "الغريب المصنف" (هو من كتب اللغة التي تُعنى بالغريب، ومصنفه هو أبو عبيد القاسم بن سلام)، قال أبو عمر: فقلت: أحضروا من يقرؤه، فجاؤوا برجل أعمى يقال له ابن سيده فقرأه عليّ كله من حفظه وأنا ممسك بالأصل، فتعجبت من حفظه.
بذاكرته اللاقطة التي منّ الله بها عليه استطاع ابن سيده أن يُلمّ بعلوم اللغة العربية وينبغ في آدابها ومفرداتها، فكان -كما قال الحميدي- إمامًا في العربية حافظا للغة، وله في الشعر حظ وتصرف، وقد وصفه القاضي الجياني وكان معاصرًا له (ت 486هـ) فقال: "لم يكن في زمنه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بعلومها، وكان حافظًا". ناهيك عن علوم الحكمة والمنطق التي كانت ذائعة الصيت في ذلك الوقت.
وأما ما أُثر عنه من مصنفات فكان منها: كتاب "المحكم والمحيط الأعظم"، وكتاب "المخصص"؛ إذ هما اللذان طيّرا شهرة ابن سيده وأنزلاه بين صانعي المعاجم العربية منزلة سامقة رفيعة، باعتباره واحدا من صناعها العظام. وإنه ورغم كثرة مؤلفاته تلك وأهمية موضوعاتها، فإنه لم يصلنا منها إلا ثلاثة منها فقط هي: المشكل من شعر المتنبي، والمحكم والمحيط الأعظم، والمخصص، أما عن باقي مصنفاته فهو إما أنه فقد مع ما فقد من مخطوطات التراث، أو أنه ما زال في غياهب دور الكتب والمحفوظات، ولم تمتد إليه بعد يد البحث وأيدي الباحثين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق